الخزنة | فصل

رواية «الخزنة» (2022) عن «دار طباق للنشر والتوزيع»

 

تصدر رواية «الخزنة» (2022) عن «دار طباق للنشر والتوزيع» للروائيّ عصمت منصور، ضمن مشروع «كلمات حرّة» الّذي تتبنّاه الدار في توثيق أدب الحرّيّة، بحيث تجري أحداث الرواية داخل اسوار المعتقل ويتحرّك أبطالها الأسرى في مساحات سرديّة واسعة رغم ضيق الحيّز المكانيّ لأحداث الرواية، وهي رواية عن الحبّ والحرّيّة، يتجلّى فيها الحبّ لتبدو قصّة حبّ فلسطينيّة بامتياز، ويسير التشويق مع كلّ أحداث الرواية، بقلق وتوتّر، في اللحظات الحاسمة الّتي يسعى فيها أبطال الرواية للهروب من السجن «الخزنة».

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب ودار النشر.

 


 

 

النهايات

نحن لا نختار النهايات، هي الّتي تختار اللحظة الّتي تضرب بها، مثل نصل سيف على لوح خشبيّ جافّ، مُحْدِثَةً ضجيجًا موجعًا.

يحدث هذا عندما نكون في ذروة بحثنا عن نهاية مختلفة أنفقنا لأجلها أجمل سنوات وأيّام عمرنا وطاقتنا، حتّى إذا ما واصلنا الحياة بعدها، نواصل ببقايا عمر ودون طاقة.

كانوا يغتصبونني بشكل جماعيّ فاحش وعلنيّ، قال سامر بقنوط والكدمات تنتشر حمراء متورّمة على كلّ بقعة من جسده.

أنا الّذي افتديت سامر، وجهزّته للموت شهيدًا، وأعطيته دوري في الهرب. لم أكن أعلم أنّني أدفع به إلى جحيم لا يحتمل من العذاب.

بعد أن لفّ كلّ واحد منّا مصحف قرآن على صدره، وجهّز حقيبة وضع فيها أشياءه القليلة الّتي ستعينه على الأيّام الصعبة القادمة الحافلة بالمطاردة الّتي تنتظره، نزلنا إلى داخل النفق.

لم أقل لسامر، وبقيت حتّى هذه اللحظة أخفي عنه أنّني أعطيته دوري وآثرته على نفسي ليس من أجله، بل لأنّني وعدت أخي الّذي لاحظ خشونة يديّ وسألني أكثر من مرّة عن السبب، واعترفت لأخي أنّنا نحفر نفقًا ونخطّط للهرب، فكان طلبه الوحيد منّي حين عَجِزَ عن إقناعي بالتراجع أن لا أكون الأوّل الّذي سيخرج من النفق وأن لا أكون الأخير، وأن أحاول أن يكون ترتيبي في الوسط.

هل فكّرت في هذا عندما أعطيت رقمي الّذي حصلت عليه في القرعة الّتي أجريناها ليلة الهرب، أم أنّني أشفقت على سامر وأردت أن أزيد من حظوظه.

هل أنا قدّيس أم أنانيّ؟ لست متأكّدًا من شيء الآن.

خرج إبراهيم أوًلًا... كان النفق مضاءً.

زحف حتّى نهايته، فتح بعضلاته القويّة القشرة الأخيرة الّتي انبعث منها ضوء القمر الّذي كان يذوي مع اقتراب الفجر.

طلب منه الأمير أن لا يخرج قبل أن يتأكّد أنّ الحارس لم يلاحظ شيئًا، وأن يترك بعض الوقت بين فتحه لعين النفق الخارجيّة وبين خروجه.

كنّا نرتدي زيًّا أسود كي نتماهى مع الليل.

 خرج إبراهيم، وكانت المفاجئة الّتي لم نحسب لها حسابًا أنّ العشب الأخضر الّذي ينمو قرب سور السجن قد اصفرّ وأصبح يابسًا، وما أن داس عليه بقدمه العارية، حيث كنّا قد خلعنا الأحذية ووضعناها في حقيبة إلى أن نتجاوز الشارع، ويخرج آخر أسير. أحدث دوس قدمه على العشب صوتًا تردّد صداه في الليل ما لفت نظر الحارس.

وقف في برجه وبدأ يرصد كلّ حركة.

همدنا وتجمّدنا في أماكننا، كان سامر ينتظر عند فتحة النفق الّتي في الغرفة والأسير الثاني عند الفتحة الخارجيّة.

أطفأنا نور النفق وانتظرنا عشر دقائق.

 يبدو أنّ السجان اطمأنّ أن لا شيء شاذًّا يستدعي إعلان الطوارئ، وأنه ربّما كان الصوت صادرًا عن حيوان برّيّ مرّ قرب السور.

خرج الأسير الثاني، وقد كان أشدّ حذرًا تجاه العشب اليابس، لكنّ صوت الحجارة تحت قدميه كان لافتًا ومسموعًا. وجّه السجّان الأضواء الكاشفة تجاه فتحة النفق ولمح الأسير وهو يفرّ في الجانب الآخر من الشارع. رغم أنّ العمليّة قد فشلت وكُشِفَ أمرنا، إلّا أنّ سامر قرّر الاستمرار ودون أن ينتظر إذنًا من أحد أو أن يتردّد لحظة، خرج من الفتحة مباشرة وألقى بجسده على العشب وبدأ يتدحرج محاولًا الوصول إلى الشارع وتجاوزه للجانب الآخر والاختفاء بين الأشجار.

لم يرفع رأسه ولا جسده عن الأرض، كانوا خلال دقائق يحاصرونه ويحيطون به مثل كلاب مسعورة. انطلقت صافرة الإنذار وامتلأ السجن بالجنود والسجّانين الّذين أجروا العدد وتفتيشًا سريعًا للغرف تبيّن معه أنّ غرفتنا هي الّتي حفرت النفق. سيطروا علينا وقيّدونا وأخرجونا. المفارقة أنّهم قاموا بإخراجنا إلى غرفة المغسلة الّتي في الساحة. لو كان سامر بيننا لما تردّد في أن يستغلّ النفق ويهرب حتّى لو كان احتمال نجاته صفرًا. لا يمكنه أن يسامح نفسه إذا ما أهمل فرصة للهرب مهما كانت احتمالات نجاحها صغيرة.

أمّا أنا فقد أذعنت. كانت إدارة السجن تتصرّف بشكل هستيريّ وتضرب كلّ من تجده أمامها. رأيت سامر وهو مكبّل والدم ينزف من وجهه وهو شبه غائب عن الوعي. كانت هذه هي المرّة الأخيرة الّتي أراه إلى أن التقينا بعد أن أنهى فترة العزل الانفراديّ الّتي استمرّت ثلاث سنوات.

تبنّى سامر والأسيران الآخران العمليّة وأخذوا على عاتقهم تحمّل العقاب لوحدهم، واعترفوا أنّهم مَنْ خطّط ونفّذ دون أيّ تعاون من أيّ شخص آخر، وذلك جنّب بقيّة الغرفة العزل الانفراديّ ومنح إدارة السجن فرصة كي تطوي القضيّة وتصبّ غضبها وانتقامها على الأسرى الثلاثة.

عندما قابلت سامر بعد أن عاد من العزل بدا أنحف وأكثر هدوءًا مع أنّ روحه لا تهدأ. يميل أكثر إلى العزلة والانطواء. احتضنته وأنا أستقبله، وبكيت على كتفه وكأنّني أعتذر منه. لم تكن لديه الرغبة في الحديث عمّا حدث معه، وأمام إلحاحي وطول بقائنا معًا قال لي إنّه عاش أسعد لحظات حياته. قال إنّه عندما استلقى على العشب اليابس، لم يشأ أن ينهض أبدًا، أراد أن يتوحّد معه، أحسّ بجسده لأوّل مرّة يعود إليه، وأنّه أصبح قشّة صفراء يابسة ذابت مع القشّ وأصبحت جزءًا منه.

قال: "عندما انهالوا عليّ وجلسوا فوقي وأنا ممدّد على العشب اليابس، ازداد شعوري بالتماهي مع القشّ والأرض والتراب، وأنّ أقدامًا تدوسنا بحقد معًا... أقدام غريبة وصلبة لا تشبه هذا الفجر أو الأرض والقشّ. بقوا فوقي إلى أن جاء مدير السجن، أمسكني من شعري ورفع رأسي وهم لا يزالون فوقي... ما أن عرفني حتّى قال: هل تعلم كم مرّة تمنّيت هذه اللحظة، وتخيّلتني أطلق النار عليك. ركلني بحذائه وكان هذا إيذانًا منه وإشارة تنذر ببدء حفلة الضرب والتنكيل. لم أقاوم وشعرت أنّني أقوى منهم، لذا لذت بالصمت مبديًا شماتة لا أعرف كيف سيطرت على تفكيري".

كان سامر يتحدّث بتواضع ودون تباه أو استعراض، إلى أن وصل إلى الفقرة الّتي تحدّث فيها عن لحظة وصوله إلى الزنزانة.

 قال إنّه خضع للتحقيق من قبل جهاز الأمن العامّ ’الشاباك‘ وجهاز الشرطة، وأنّه اعترف لهم أنّه مَنْ بادر وخطّط وأن لا شركاء له في القضيّة. بعد ذلك أُعِيدَ والأسيرين الآخرين إلى أيدي السجّانين الّذين قيّدوهم وسحبوهم إلى غرفة كبيرة.

بدأ وجه سامر يشحب وكأنّ غيومًا سوداء أطبقت على قلبه، كان يتألّم من داخله وهو يتذكّر.

قال: "أغلقوا باب الغرفة الّتي تشبه القاعة الخالية، وأبقوا على القيود في أيدينا، ليعودوا بعد ربع ساعة وبأيديهم هراوات غريبة، ليست بلاستيكيّة مع أنّ لونها ابيض، أعتقد أنّها من مادّة تشبه العظم. انهالوا بها علينا في كلّ مكان من أجسادنا، استمرّوا في الضرب المبرّح لربع ساعة وهم يضحكون ويقولون، تريدون أن تهربوا؟ خذوا. بعد ذلك فكّوا قيودنا وتركونا على الأرض. جاء مدير السجن يتبختر مثل طاووس مغرور يملؤه الحقد، همس بشيء ما في أذن أحد السجّانين وذهب، ليعاودوا الكرّة مرّة أخرى. هذه المرّة، وما أن شاهدهم إبراهيم يفتحون الباب وبعد أن رأى القوّة تقترب، حتّى قرّر أن يهجم عليهم. انطلق مثل صخرة تهوي عن قمّة شاهقة نحوهم وهو يرفع قبضته الصلبة، لكنّهم تلقّفوه وأشبعوه ضربًا، الأسير الآخر انزوى في زاوية القاعة وأخذ يصرخ مثل مهووس أو كأنّ مسًّا من الجنون أصابه، كان مرعوبًا وخائفًا ويصرخ من شدّة الألم متخيّلًا ماذا سيحلّ به. لم يرحموه وانهالوا عليه بالركل والضرب. لا أعرف أين أخذوا إبراهيم، لكنّهم أبقوا عليّ وعلى الأسير الآخر في القاعة. كنّا في فصل الصيف كما تذكر، والقاعة مليئة بالبعوض والحشرات، لذا بدأ الأسير الّذي بقي يقتل البعوض ويضع دمه على وجهه ويديه العاريتين ويبكي. لم أطلب منه أن يتوقّف، انكمشت على ذاتي وانتظرت الجولة التالية. جاؤوا مرّة أخرى، لكنّهم لم يضربونا، بل طلبوا منّا أن نقف، وقاموا بسحبنا. كان أمامنا خلف باب القاعة أو الغرفة الكبيرة الّتي لا أعرف لماذا كانوا يستخدمونها، درج طويل، عند أوّله دفعوني وقاموا بسحلي حتّى آخره. كنت أشعر بزوايا البلاط تحفر في جسدي وتدكّ عظامي. تحمّلت كلّ شيء دون أن أنطق بكلمة واحدة. لم أعد أحسّ أو أشعر بالألم. إلى أن أدخلوني إلى تلك الغرفة الزجاجيّة".

أكمل: "كانت الغرفة شفّافة مثل قطعة بلّور صافية يحيطها الزجاج من كلّ جانب، أحضروا لي حبّتي دواء وأجبروني على شربها وعرّوني من ملابسي لأعود كما أنجبتني أمي. بعد دقائق أحسست بمغص شديد في أمعائي، شعرت وكأنّها تتقطّع من شدّة الألم، وأخذت أتقيّأ وأتغوّط وأخرج كلّ ما في أحشائي. سَقَطْتُ على فضلات جسمي والقيء الّذي تسبّبت به حبّات المسهّل الّتي أعطوني إيّاها كي أُخْرِجَ كلّ ما في بطني ليتأكّدوا أنّي لم أُهرّب شيئًا داخل جسدي. أحسست أنّهم ينتهكون جسدي، وكأنّهم يغتصبونني أمام الكاميرا المثبّتة في زاوية الغرفة البلّوريّة وتحت أعين الحرس الّذين كانوا يقفون خلفها وينظرون إليّ بقرف. رشّوني بعد ذلك بالماء ورموا لي منشفة.

قلت: "لماذا توقفت"!

- "ماذا تريد أكثر من هذا".

- "لقد عانيت كثيرًا".

- "هل تذكر حديث سفيان معنا في سجن عسقلان؟".

- "أعتقد أنّه رواه بشيء من الفخر فقط لأنّه لم يتضمّن الإجراء الأخير، الّذي يشبه حفلة الاغتصاب الجماعيّة العلنيّة الّتي أجروها لي".

- "أين سفيان الآن؟" سأل سامر.

- "في سجن نفحة، أجبته وتذكّرت سفيان وما حدث معه هو الآخر".

هل قّدر لي أن أكون الشاهد على هذه الجرائم؟ أن أقف على مسافة كتف واحدة منها دون أن أجرؤ على أن أخطو الخطوة الوحيدة اللازمة كي أصبح أحد أبطالها؟ لماذا أتردّد في آخر لحظة واختار الزاوية الآمنة مستظلًّا بالآخرين؟

نهاية قصّة سفيان تشبه كثيرًا نهاية سامر وتتقاطع معها، إلّا أنّها أقدم ولها مذاق مرّ من نوع آخر. الحقيقة أنّ سفيان كان يروي قصّته لسامر وكأنّه يهيّئه لدور كان يوقن أنّه سيلعبه. شيء ما في الانسجام الّذي وُلِدَ بينهما ودرجة التشابه الكبيرة الّتي جمعتهما جعلته يدرك أنّ سامر سيحاول الهرب يومًا ما،. بينما كنت أنا مستمعًا، حتى أنّ سفيان لم يلتفت إليّ ولو لمرّة واحدة طوال فترة حديثه.

هو لم يبحث عن مدوّنين يروون قصّته للعالم، بل عن أتباع يمشون خلفه، عن شركاء كما كان يصفهم بإجلال، لذا زرع نظراته الغاضبة والمصمّمة في عينيّ سامر وقال له، ولنا: "بعد أن سقطت المسنّنة على الأرض، لم تظهر إدارة السجن شيئًا، عرفت بما يحدث لكنّها أرادت أن تضبطنا متلبّسين أو أن تصفّينا جسديًّا ما إن نُطِلّ بأجسادنا من الشباك. كان السجّان يحوم حول الغرفة بمكر مثل ذئب جائع يترقّب وقوع فريسته في الفخّ. أدركت أنّهم اكتشفوا أمرنا بعد أن رأيت ظلّهم وهو يتحرّك مثل شبح على السطح العالي. توقّفنا عن القصّ، وارتدينا ملابسنا وانتظرناهم. لا بدّ أنّهم شعروا بخيبة أمل لطول انتظارنا، فقرّروا أن ينهوا اللعبة على طريقتهم. جاء مدير السجن ومعه قوّة كبيرة، قاموا باقتحام الغرفة الّتي كان كلّ الأسرى فيها نيام بفعل حبوب المنوّم الّتي قدّمناها لهم، استغرقت عمليّة إيقاظهم وقتًا طويلًا وشارك فيها مدير السجن شخصيًّا، بينما كنت أنا وجميل قد ارتدينا ملابسنا وجلسنا بهدوء على أبراشنا في انتظارهم. هل كانوا يعتدون علينا ويضربوننا بهذه القسوة وبكلّ ما تطاله أيديهم بسبب فشلهم؟ أم لردعنا وردع الآخرين؟ أو ربّما هو حقد دفين لديهم... لا أعلم، لكنّهم ما إن أخرجونا من الغرفة حتّى انهالوا علينا بالضرب المبرّح بالأيدي والأرجل والهراوات طوال الطريق حتّى وصلنا إلى الزنزانة الانفراديّة، وكلّ هذا على مسمع من بقيّة الأسرى".

أكمل: "أغلقوا باب الزنزانة خلفنا، ساد الظلام والصمت، لم نجلس أو نتحرّك، فقد كنّا ما نزال مقيّدين بالأصفاد ولا نستطيع رؤية شيء داخل الزنزانة المعتمة. طلبت من السجّان أن يفكّ قيودنا... فقال لي: لكي تهرب أيّها الجبان. ضحكت رغم آلامي من كلمة جبان، وأنّ كلمة هروب لأوّل مرّة ربّما تعني عكس دلالتها الأولى والراسخة في أذهان الناس. بقينا في الزنزانة المظلمة الصغيرة الّتي لا تتجاوز مساحتها مترًا في متر لمدّة أسبوع، خرجنا خلالها فقط لمقابلة لجنة التحقيق الّتي تشكّلت للتحقيق معنا. سألني الضابط الّذي يجلس على رأس الطاولة برأسه الكبيرة الخالية من الشعر وذقنه الحليقة الحمراء: لماذا: أردت أن تهرب؟

- لأنّكم منعتم عائلتي من زيارتي.

استغرب إجابتي فقال: أريد الأسباب الأبعد... الحقيقيّة.

- سوء المعاملة الّتي نلقاها. قلت.

قال: أريد تفاصيل أكثر.

قلت له: عدم وجود مياه في السجن.

كان سجن الخليل يعاني من أزمة مياه دائمة.

- إلى أين أردت أن تهرب؟

- إلى بيتي.

- بيتك؟ قال، وأضاف بسخرية وعدم اقتناع: ليس إلى الجبال.

- نعم إلى بيتي.. مكاني الطبيعيّ.

- وإذا ما اعترضك الحرّاس، ماذا كنت ستفعل؟

- سأتهرّب منهم وإذا تصادموا معي سأكتفي بربطهم.

طرق على الطاولة وقال والزبد يخرج من زوايا فمه: بل ستقتلهم أيّها الحقير.

عدت إلى الزنزانة الّتي انتبهت عندما فتح الباب ودخلها شعاع واهن من الضوء أنّ أرضيّتها وجدرانها خضراء جرّاء الرطوبة وانعدام الهواء وعدم دخول ضوء الشمس إليها منذ عقود، فقد كانت خالية من الشبابيك وصغيرة جدًّا وسقفها مرتفع بشكل لافت.

بقينا في الزنزانة لأسبوعين آخرين، بعدها نُقِلْنَا إلى عزل سجن بئر السبع جنوبيّ فلسطين. زنازين سجن بئر السبع أنظف من زنزانة الخليل وفيها حمّام داخليّ، لكنّها أكثر عزلة وقسوة وبرودة. لم يكن إنسان يقترب منّا، وفقط عندما يريدون إخراجنا منها، كان يأتي سجّان ويفتح طاقة ’كوّة‘ صغيرة أسفل الباب الرماديّ السميك ويمدّ يدين بأصفاد يضعها في أقدامنا، وطاقة أخرى وسط الباب نمدّ أيدينا ليقيّدنا منها.

بالقرب منّا كان هناك سجناء جنائيّون فقط، لاحظنا أنّهم ينفرون منّا ولا يحاولون الاقتراب من زنزانتنا، لنكتشف بعد فترة أنّ ثمّة لوحة صغيرة معلّقة على باب زنزانتنا مكتوب عليها ’شديدو الخطورة‘.

سجين جنائيّ واحد تجرّأ واقترب من زنزانتنا. استبشرنا به خيرًا واستطاع بتردّده شبه اليوميّ علينا أن يكسر عزلتنا. نشأت علاقة صامتة بيننا وبين هذا السجين الغريب الأطوار، أطلقنا عليه اسم ’علّوش‘ لأنّ كلّ الحوارات بيننا كانت صامتة وأقرب إلى السرقة، كان يحضر لنا بعض الطعام بعد أن يقوم بفتح الطاقة الّتي في وسط الباب، يلقيه ويذهب. بعد شهرين سمحت لنا إدارة السجن بالخروج إلى ساحة السجن دون أن تسمح بفكّ القيود من أيدينا أو أرجلنا. كنّا نسمع من الساحة أصوات أسرى يتحدّثون باللغة العربيّة ويمارسون الرياضة دون أن ننجح في الاتّصال بهم، إلى أن اكتشفنا ثقبًا صغيرًا في الحائط الّذي يفصل بيننا وبينهم. حاولنا أن نراقبهم، وأن نتعرّف على وجوههم، لكنّ الشيء الوحيد الّذي كنّا نراه هو أقدامهم الّتي استغربنا أنّها كانت دون قيود وأصفاد، فقدّرنا أنّهم أسرى عاديّون وليسوا معزولين مثلنا. جهّزنا رسالة وهرّبناها معنا إلى الساحة، قام جميل بدسّها في الثقب الصغير الّذي يطلّ على الجانب الآخر من الساحة، عرّفنا فيها على أنفسنا وشرحنا فيها حالنا والظروف القاسية الّتي نعيش. خشينا أن يكون العالم قد نسينا وأنّه ليس ثمّة أحد في هذا العالم يعلم بوجودنا.

 في اليوم التالي، تلقّينا رسالة بنفس الطريقة الّتي أرسلنا فيها رسالتنا وكانت موقّعة باسم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي من قطاع غزّة. كنّا نعرفه جيّدًا، وهذا أدخل كثيرًا من السكينة والهدوء إلى نفوسنا وأشعرنا بالأمان. واصل علّوش تقديم خدماته لنا، إلى أن تبيّن لنا من أحد الأسرى الجنائيّين الّذين كانوا يتجنّبوننا ويتجنّبون الاحتكاك به أيضًا، أنّ علوش مصاب بالإيدز ولديه نقص في المناعة. وقع الخبر علينا وقع الصاعقة وبدأنا نتحسّس أجسادنا بشكل هستيريّ. أصابنا نوع من الهوس من أن يكون المريض قد نقل مرضه الملعون إلينا. كتبنا رسالة للدكتور وطلبنا فيها رأيه كطبيب. ردّ علينا ردًّا جميلًا وساخرًا شرح لنا فيها مطوّلًا عن طبيعة هذا المرض، قال إنّه ينتقل فقط من خلال اللعاب والاتّصال الجسديّ. مضيفًا بشكل ساخر: "لا أعتقد أنّه أقام معكم أيّ اتّصال جسديّ أو قبّل أحدًا في فمه".

ضحكنا وشعرنا بارتياح وأقسمنا أن لا نأخذ منه شيئًا بعد الآن. كان مدير القسم يقوم بجولة أسبوعيّة يمرّ فيها على زنزانتنا، وكلّ مرّة كنت أسأله: إلى متى سنبقى هنا؟

كان يردّ ببرود: على طول.

بعد ستّة أشهر تمّت إعادتنا إلى السجن.

صدرت عن سامر تنهيدة طويلة قابلها سفيان بابتسامة عريضة. أنهى سفيان رواية قصّته الّتي كانت عبارة عن بذرة مجنونة زرعها في قلب سامر. كنّا نتذكّر سامر وأنا وسفيان نتواصل معه عبر المراسلة.

ذات نهار سألت سامر: هل يمكن أن تفكّر بالهرب مرّة أخرى؟

كلّ ما عاشه وواجهه وحجم المعاناة الّتي مرّ بها تكثّفت على شكل شريان نافر أزرق يكاد ينفجر من شدّة الانفعال واختلاط المشاعر أسفل عينيه. قال بثقة: حتّى وأنا في الزنزانة كنت أفكّر بالهرب.

أردت أن أسأله إن كان سيشركني معه هذه المرّة أيضًا، لكنّني خجلت وخشيت من جوابه. ابتلعت السؤال وطلبت منه أن يفسح لي في المجال كي أستلقي بجانبه على برشه. أزاح جسده وعينه مسلّطة على السقف الحديديّ للبرش وترك لي أن أستلقي بجانبه.

 


 

عصمت منصور

 

 

 

كات وروائيّ وأسير محرّر، قضى في السجون الإسرائيليّة نحو عشري عامًا بين عاميّ 1993 و2013. صدرت له روايتين: «سجن السجن» (2011)، و«السلك» (2013».